الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخمسين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية التاسعة والستين بعد المئة، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ (169)﴾
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
بيّنت لكم أيها الإخوة أنّ للحياة نظامَين؛ نظامًا في الدنيا، ونظامًا في الآخرة، فهذا الذي قُتِل في سبيل الله هو يحيا حياةً من أعلى مستوى، ولكن بنظام آخر، قد تجده مدفوناً في قبر، وقد تجده فَقَدَ بعض أعضائه، وقد يُمثِّل الكفار بجثته، ولكن هذه الجثة ما هي إلا وعاء له، أما هو ففي أعلى عليين، وفي جنة عرضها السماوات والأرض، لذلك من الوَهن أن تظن أنّ هذا الذي قُتل في سبيل الله ميت، إنه حي بنص هذه الآية: ﴿بَلۡ أَحۡيَآءٌ﴾ وكلمة حيّ لها أبعاد، فهناك وعي، إدراك، سعادة، سرور، اتصال بالله عز وجل، فهذا الذي قُتِل في سبيل الله هو حي يرزق: ﴿بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ﴾ .
هؤلاء الذين رأوا ما عند الله من إكرام شديد فرحوا فرحاً كبيراً بفضل الله، وقد قال الله عز وجل:
﴿ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(58)﴾
بأي شيء تفرحُ أيها المؤمن ؟
وأنا أقول لكم: اجعل لنفسك هذا المقياس؛ ما الذي يفرحك، قل لي ما الذي يفرحك أقل لك من أنت، حينما تفرح أن الله يحبك فأنت مؤمن، حينما تفرح أن الله أعانك على طاعته فأنت مؤمن حينما تفرح أن الله أجرى على يديك الخير فأنت مؤمن، حينما تفرح أن الله عصمك من معصية فأنت مؤمن، حينما تفرح أن الله أعانك على تربية أولادك وكانوا صالحين فأنت مؤمن، حينما تفرح أنّ امرأتك مطيعة لله عز وجل، لا تؤذي أحداً في خروجها، ولا في زِيّها فأنت مؤمن، أما حينما تفرح في الدنيا فقط، ولو أنها جاءتك من معصية فأنت لست بمؤمن، قل لي ما الذي يُفرِحك أقل لك من أنت، ما الذي يفرحك؟ ما الذي يملأ قلبك سعادةً؟ أن تكون غنياً فقط، أن تكون قوياً، أن تكون في منصب رفيع، أن تشعر أنه بإمكانك أن تتحكم في الآخرين؟ أما الذي يفرحك أن يسمح الله لك أن تكون جندياً من جنود الحق، الذي يفرحك أن تشعر أنّ الله سبحانه وتعالى استعملك في مرضاته، استعملك في خدمة عباده، استعملك في ملء قلوب الناس أمناً وطمأنينة، ملء قلوب الناس سعادة، إذا استخدمك في الخير ينبغي أن تفرح.
(( إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه. ))
لأن:
(( إنَّ هذا الإنسانَ بنيانُ اللَّهِ فملعونٌ مَن هدم بنيانَهُ. ))
[ الزيلعي وقال غريب جداً ]
إذا كان عملك مبنيًا على هدم بنيان الله، مبنياً على إلقاء الرعب في قلوب الناس الآمنين فلست من الناجين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا. ))
إذا كان عملك مبنيًا على ابتزاز أموالهم، إذا كان عملك مبنيًا على إفساد أخلاقهم، يقول لك: هذا العمل عبادة، وهو يبيع أشياء محرمة، من الذي قال لك: العمل عبادة بهذا المعنى؟ قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلَا ٱلْهَدْىَ وَلَا ٱلْقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(2)﴾
كم حرفة في بلدنا المواد التي تتعامل معها لا ترضي الله عز وجل؟ كم حرفة؟ لا تعد ولا تحصى، مبنية على معصية، مبنية على إفساد، مبنية على تفرقة، قل لي ما الذي يفرحك أقل لك من أنت؟ متى يمتلئ قلبك فرحاً؟ إذا أتقنت صلاتك؟ إذا وجدت عينك تدمع من خشية الله؟ إذا وجدت نفسك مخلصاً لله؟ إذا صليت والناس نيام فانهمرت من عينيك الدموع، ما الذي يفرحك؟ صنِّف نفسك مع أهل الدنيا، أو مع أهل الآخرة من خلال هذا المقياس؛ إن فرحت بالدنيا فأنت من أهل الدنيا، وإن فرحت بالآخرة فأنت من أهل الآخرة.
أحد خلفاء بني العباس كان في بيت الله الحرام، فالتقى عالماً جليلاً قال له: سَلْنِي حاجتك، قال: والله إني لأستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، فلما لقيه خارج الحرم قال له: سلني حاجتك، قال: والله ما سألتُها من يملكها أفأسألها من لا يملكها، ألحّ عليه، قال: أنقذني من النار، وأدخلني الجنة، قال: هذه ليست لي، قال: إذاً ليس لي عندك حاجة.
عفة المؤمن صارخة، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ (169)فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ (170)﴾
لذلك حينما يلقى المؤمن الله عز وجل، ويرى مقامه في الجنة يقول: لم أرَ شراً قط، وقد تكون حياته مفعمةً بالمتاعب، لكنه ينسى، كطالب درس دراسةً مجهدةً، فلما أحرز الدرجة الأولى في الامتحان أَنْسَتْه فرحته بهذه الدرجة كل متاعبه، أما الكافر حينما يرى مكانه في النار يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصُعِقوا، يقول: لم أرَ خيراً قط.
جنة الدنيا :
كان سيدنا عمر بن عبد العزيز يقرأ قوله تعالى:
﴿ أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَٰهُمْ سِنِينَ(205)﴾
متعناهم سنوات طويلة، طعام وشراب، وبيوت فخمة، ومركبات ﴿أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَٰهُمْ سِنِينَ﴾ وبعد هذا:
﴿ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ (206) مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ(207)﴾
هذه الآية كان سيدنا عمر بن عبد العزيز يتلوها كلما دخل إلى مقرّ عمله ﴿أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَٰهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ* مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ﴾ يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا(27)﴾
احتقاراً لهم ﴿إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾
قال تعالى:
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)﴾
قال تعالى:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾
قال تعالى:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ (196) مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (197)﴾
﴿فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِ﴾ إخواننا الكرام، كلمة من القلب إلى القلب: إن لم تقل: أنا أسعد الناس، وأنت في الدنيا، وأنت تعاني آلاف المشكلات، أنت سعيد بالله، سعيد بأن الله هداك إليه عرَّفك بمنهجه، أعانك على طاعته، سمح لك أن تتصل به، إن لم تقل: أنا أسعد الناس ففي إيمانك خلَل، لأنه في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، بعضهم استنبط من قول النبي الكريم:
(( أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنّةِ ))
أنه الآن في الجنة، في جنة القرب، وهناك دليل قرآني:
﴿ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)﴾
عرَّفها لهم في الدنيا، أذاقهم بعضاً منها، أذاقهم طعمها، ﴿وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ ينبغي أن تكون في جنة، ماذا يفعل أعدائي بي؟ إنْ أبعدوني فإبعادي سياحة، وإنْ قتلوني فقتلي شهادة، وإنْ حبسوني فحبسي خلوة .
أنت موصول بالله عز وجل، لا بد أن تكون في جنة، هذه الجنة فلنبحثْ عنها، إبراهيم عليه السلام كان في جنة وهو في النار، قال تعالى :
﴿ قُلْنَا يَٰنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبْرَٰهِيمَ (69)﴾
أهل الكهف كانوا في جنة، وهم في كهف خشن، النبي عليه الصلاة والسلام كان في جنة، وهو في غار ثور، يا رسول الله لقد رأونا، قال: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُواْ ۖ وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾
يونس عليه الصلاة والسلام كان في جنة، وهو في بطن الحوت، هذه السكينة التي يُنعِم الله بها على المؤمنين، تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء.
والله أسمع من بعض الأشخاص الذين فقدوا حريتهم سنوات طويلة أنهم كانوا في جنة، مع ما كانوا فيه من سوء المكان والعيش، ومع ذلك فهو موصول بالله عز وجل، هذا هو جوهر الدين؛ أن تتصل بالله، أن تشعر أن الله يحبك، وأنك بعينه، قال تعالى:
﴿ وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48)﴾
وأنك بحفظه، ورعايته، وأنك محوطٌ برحمته.
(( ومَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَه. ))
السعادة تحتاج إلى استقامة :
أنت بأي مرتبة؟ قوي، ضعيف، فقير، غني، صحيح، مريض، وسيم، دميم، أنت في أي وضع؟ ما دمت مع الله فأنت في سعادة، هذه السعادة تحتاج إلى استقامة، إلى عفة، إلى وَرع، إذا كنت ورِعاً ذقت من طعم القرب، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( ِثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار. ))
عند التعارض، تعارضت مصلحتك مع النص الشرعي، فركلت مصلحتك بقدمك، عندئذ تستحق أن تذوق من الله حلاوة الإيمان، الإيمان له حلاوة وله معانٍ، قد تدرك معاني الإيمان، ولا تذوق حلاوة الإيمان، حلاوة الإيمان ثمنها باهظ، ثمنها مجاهدة، ثمنها أن تكون وقّافاً عند كتاب الله، ثمنها أن تؤثر النص الشرعي على مصلحتك.
فكلمة ﴿فَرِحِينَ﴾ وقوله تعالى ﴿فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ أي يجب أن تفرح بفضل الله، يجب أن تكون من أسعد الناس وقد تكون دنياك متواضعة جداً، خشنة، قد تعاني ما تعاني:
فليتك تحـلـــو والحيـاة مريــــرةً وليتك ترضى والأنام غِضــابُ
وليت الذي بيني وبـينك عامــــرٌ وبيني وبين العالمين خـــــرابُ
إذا صحَّ منك الوصل فالكل هيِّنٌ وكل الذي فوق الترابِ تــــرابُ
ألم تسمع دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:
(( اللَّهمَّ إليكَ أشكو ضَعفَ قوَّتي، وقلَّةَ حيلَتي، وَهَواني علَى النَّاسِ، أنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ، أنتَ ربُّ المستضعفينَ، وأنتَ ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجَهَّمُني أَمْ إلى عدُوٍّ ملَّكتَهُ أمري. إن لم يَكُن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هيَ أوسعُ لي.. أعوذُ بنورِ وجهِكَ الَّذي أشرَقت لهُ الظُّلماتُ، وصلُحَ علَيهِ أمرُ الدُّنيا والآخرةِ، أن يحلَّ عليَّ غضبُكَ، أو أن ينزلَ بي سخطُكَ. لَكَ العُتبى حتَّى تَرضى، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بِكَ.))
إذا كان الله معك فمن عليك، هذا الذي أقوله ﴿فَرِحِينَ﴾ رأى ما أعد الله له في الجنة ففَرِحَ، إنسان ﴿فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
قال تعالى:
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ(61)﴾
هل يستويان؟ قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾
لا يستوي إنسان معه حق، معه نور، معه وحي، معه منهج دقيق، وإنسان آخر ضائع شارد.
على كلٍ معنى: ﴿فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ .
المؤمن لا يخاف من المستقبل ولا يحزن على الماضي:
ما من كلمات مُوسَّعات إلى درجة غير معقولة كهاتين الكلمتين، أنت هنا الماضي كله مغطى، ﴿وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ ، والمستقبل كله مغطى، ﴿أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ﴾ أنت من خوف الفقر في فقر، ومن خوف المرض في مرض، وتوقّع المصيبة مصيبة أكبر منها، لمجرد أن تقبل طمأنة الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ(51) ﴾
فأنت في سعادة، كن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، لا يوجد عندك شيء، لا يوجد عندك منقول، ولا غير منقول، ولا أصفر، ولا أحمر، ولا عملة صعبة، ولا أرصدة، ولا شيء، ولكن أنت واثق من رحمة الله، أنت الغني، والذي يملك كُتَلاً مُكدَّسة فوق بعضها من أنواع العملات، وسبائك ذهبية، وشركات، ومساهمات فهذا فقير عند الله، فلذلك أنت من خوف الفقر في فقر، من خوف المرض في مرض، توقع المصيبة مصيبة أكبر منها ﴿أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾
﴿أَلَّا تَخَافُواْ﴾ في المستقبل ﴿وَلَا تَحْزَنُواْ﴾ الماضي، وإذا تقدمت بإنسان السن، وكان في شبابه غارقاً في الملذات يتحسر على شبابه، دائماً في حسرة، وإذا كانت الأخبار غير سارة فهو خائف من المستقبل، يا ترى نبقى في بيتنا أم لا نبقى؟ يا ترى هل يصبح معنا مرض عضال؟ كيف نموت؟ هذا مات موتات قبل أن يموت، أما المؤمن فواثق من رحمة الله، قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا﴾ إذاً:
﴿ يَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (171)﴾
لابد من الصبر على فقْد الأحبة:
مرة عثرت على حديث شريف رائع، أن أحد الصحابة كان يضع ابنه في حِجْره أمام رسول الله، وكان ابنه وسيم الصورة، النبي أراد أن يؤنسه فقال: يا فلان، أتحبه؟ قال: والله أحبَّكَ الله يا رسول الله كما أحبه، يبدو أنه يحبه حباً عالياً، فدعا للنبي أن يحبه الله كما يحبه، بعد حين افتقده النبي، فسأل عنه، قالوا: ابنه هلك، مات، فالنبي استدعاه، وعزّاه، وقال له:
(( يا فلانُ: أيما كان أحَبَّ إليك أن تتمتَّعَ به عمرَك، أو لا تأتي غدًا إلى بابٍ من أبوابِ الجنَّةِ إلا وجدتَه قد سبقَك إليه يفتحُه لك؟ قال: يا نبيَّ اللهِ! بل يَسبقني إلى بابِ الجنَّةِ، فيفتحُها لي لهو أحَبُّ إليَّ، قال: فذاك لك. ))
أنا تعليقي الآن: مؤمنان عندهم ولدان وسيمان يملآن البيت بهجة، مؤمن استمتع بابنه طيلة حياته، كبر ابنه، وصار شاباً وولدًا بارًّا حتى آخر لحظة في حياته، والمؤمن الثاني مات ابنه، وهو في سن صغيرة، المؤمن الثاني صبر، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، هل من المعقول ألاّ يكون ثمة تعويض للثاني؟ يوجد عدل، هذا ما صبر، والثاني صبر، معنى هذا أن كل شيء بحسابه، فإذا كان الإنسان يعاني في الدنيا ما يعاني، وكان مؤمناً فله عند الله عطاء كبير، فالعبرة: الغنى والفقر بعد العرض على الله.
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
﴿يَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ والله لو أنقذت نملةً من الغرق، وأنت تتوضأ لن تضيع عند الله، والله لو نزعت قشةً من المسجد لقدسيته عندك، ووضعتها في جيبك فلن تضيع عند الله، والله لو أطعمت امرأتك لقمةً، لو أن في الصحن قطعة لحم واحدة، ودفعتها إلى زوجتك لن تضيع عند الله، لو أنك استقبلت ضيفاً، وآنسته، وأكرمته لن تضيع عند الله، لو أنك في عمل، وأنت رأس العمل، وابتسمت في وجه من يعمل عندك، فطمأنته لن تُضام عند الله، يجب أن تعلم أنه:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)﴾
مثقال ذرة وقد عبّر عنها العلماء أنك في أيام الشتاء والشمس تدخل إلى أعماق الغرف اكنس أرض الغرفة، ثم انظر ماذا ترى؟ ترى ذرات عالقة في جو الغرفة يكشفها ضوء الشمس ما لها وزن أبداً، وليس لها حجم، إنْ عملت عملاً صالحاً بمستوى هذه الذرة فلن يضيع عند الله، لذلك نحن نقرأ ستمئة صفحة من القرآن الكريم في رمضان، ومعنا كتب فقه، وكتب حديث، ومعنا كتب تفسير، وتعليقات ومحاضرات، وندوات، وفضائيات، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
رأى زوجته متعبة، فعاونها بعمل بسيط، عاونها بصنع طبق طعام، بغسل صحن، آلاف الأعمال، أطعم هرةً، أطعم كلباً جائعاً. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا، قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ.))
فلذلك أبواب العمل لا تعد ولا تحصى، بيتك فيه ألف طريق إلى الله، تربية أولادك، جلست مع أولادك صبرت عليهم، ربيتهم، تجاوزوا حدودهم أدّبتهم، ألبستَهم، أطعمتَهم، جلست مع أهلك، كلها أعمال صالحة، إن كنت مؤمناً فما من حركة ولا سَكَنة إلا تُعَّد عند الله عملاً صالحاً .
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّۢ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٌ صَٰلِحٌ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121)﴾
﴿ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ (170)يَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ(171)﴾
لا تخف، لا تخافُ ظلماً ولا هضماً، لا تخف أنْ تعمل عملاً صالحاً، ثم يضيع هذا هباءً منثوراً، أمثلة تدعم هذه الفكرة.
كنت مع صديق لي توفي رحمه الله، وهو من لبنان، في أحد أحياء دمشق يرجع بمركبته إلى الوراء، فاصطدم بمركبة عمومية، أنا قلقت، لعل هذا السائق ينزل، ويتكلم كلاماً، شيء غريب الذي حصل، نزل السائق، ونظر إلى ما أُصيبت به مركبته من ضرر، الضرر يحتاج إلى آلاف الليرات، قال للسائق الأخ اللبناني: أنت مسامح، اذهب، وهذا في أثناء أحداث لبنان، هذا الموقف غريب جداً، وجدت هذا الصديق تنهمر من عينه دمعة على خدّه، أنا عجبت، هل من المعقول أنه فرِح لأنه ما دفع تعويضاً عن هذا الحادث؟ ليس هذا هو المعنى، سألته: لماذا تأثرت؟ قال لي: والله قبل سنتين، وأنا في بيروت، إنسان من سوريا يركب سيارة بيجو، ومعه أهله محجبون، صدم سيارتي، قال لي: والله ما أردت أن أفسد عليه نزهته، قال له: اذهب، فلما رأى مَن يعامله نفس المعاملة خشع لله.
لا يضيع عليك شيء أبداً، تطعم طعاماً، تنقذ إنساناً، تنصح إنساناً، تتساهل مع إنسان، تعفو عن إنسان يعفو الله عنك، فلذلك يجب أن تعلم علم اليقين أنه ما من عمل صالح مهما دقّ فله عند الله أجر. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّه. ))
وأنت كنت شاباً تركب مركبة عامة، صعد إنسان متقدم في السن، بالمناسبة إنّ من إجلال الله إجلال ذا الشَّيبة المسلم، إنسان مسلم وجهه منير، عمره ثمانون سنة، هذا إكرامه إكرام لله عز وجل، فأنت وقّفت له، وكنت جالساً في مقعد.
في المسجد يأتي إنسان متقدم في السن، يحب مكاناً مريحاً، وترى شبابًا صغارا جالسين، مرتاحين، وهذا الإنسان المتقدم في السن لا يجد مكاناً يرتاح فيه، جدير بالشاب إذا كان جالساً في مكان مريح، ورأى إنساناً متقدماً في السن أن يقدّمه (مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّه) .
لا يمكن أن يعامل اللهُ المؤمن وغير المؤمن على حد سواء:
لي صديق بمصر قال لي: توفي لنا قريب قبل أن يُتوفّى قال لي: شخص عادي جداً، حتى أقلّ من العادي، دون الوسط، وأولاده في الدين دون الوسط، أسرة من عامة الأسر، غير متميزة إطلاقاً، فلما مرض الأب وجد من أولاده عناية لا يمكن أن تُصدّق، أولاد عاديون لا يوجد دين قوي يدفعهم لخدمة والدهم، ولا يوجد هذا الأب المثالي الذي قدم كل شيء لأولاده، لا هذه، ولا تلك، قال لي: عجيب، بقيت أشهراً وأنا في حيرة من هذا الوضع، سمع من خدمة الأولاد لأبيهم شيئاً لا يصدق، مع أن الأبناء عاديون، والأب أقل من عادي، ثم اكتشف أن هذا الأب حينما كان شاباً كان يرعى أباه رعايةً من هذا المستوى، فسخّر له الله هؤلاء الأولاد ليرعَوه، هذه الآية يجب أن تدخل للعظم، تدخل لأعماقنا، تكون مع ذرات دمائنا، مع خلايا جسمنا: ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ .
اشترى رجلان سيارتين من ألمانيا، فجاءا بهما إلى الشام، نزلا في فندق في بولونيا، في الساعة الثانية عشرة ليلاً طُرِق بابا الغرفتين من قِبَل فتاتين عاهرتين، الأول فتح الباب، والثاني ما فتح، في المستقبل الأول صاعد، والثاني نازل، سلّم محله، اختلف مع زوجته فطلقها، وأفلس، والثاني الذي ما فتح ارتفع قدره، كل شيء بحسابه:
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)﴾
كنت مرة راكبًا مع إنسان، فسألته سؤالاً، قد يكون سؤالاً عادياً، قلت له: هذه المركبة متى اشتريتها؟ قال لي: من كذا سنة، ولكن لها قصة، قلت له: ما قصتها؟ قال لي: أنا ساكن في حي بعيد عن عملي، وما عندي مركبة، وكنت متألماً جداً من أزمة المواصلات، ومن حمل الأغراض، فاشتريت ورقة يانصيب لعلي أربح، فأشتري بالمال مركبةً أحلّ بها مشكلتي، اشتريت هذه الورقة، ودخلت إلى أحد المساجد، فإذا الخطبة عن اليانصيب، لا حول ولا قوة إلا بالله، علّق الآمال على هذه الورقة، فما كان من هذا الخطيب إلا أن تكلم على اليانصيب، أخرج الورقة، ومزقها في المسجد خوفاً من الله، قال لي: أنا بالعادة أعمل عشرين قطعة، مئة قطعة، ألف قطعة، جاءني إنسان يريد خمسين ألف قطعة، قال لي: ربح هذه الصفقة ثمن هذه السيارة، كان تعليقي أنا: إنه معقول أن تمزق ورقة اليانصيب في الجامع خوفًا من الله، ثم لا يعطيك الله مقابلاً، الله موجود.
هناك قصص لا تعد ولا تحصى، لو أردت أن أعزز هذه الحقائق بقصص لا تعد ولا تحصى، هل من المعقول أن تدع شيئاً لله، وتكون أنت الخاسر، معقول أن تطيعه وتخسر؟ وأن تعصيه وتربح؟ معقول أن ترعى أولادك والله عز وجل يجعلهم عاقين لك، مستحيل، معقول أن تختار زوجة لأنها مؤمنة، ثم لا تسعد بها؟ مستحيل، معقول أن تترك عملاً لله فيه دخل كبير وترضى بدخل يسير، ولكنه شرعي، وتكون آخر الناس؟ مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن تطيعه، وتخسر، وأن تعصيه وتربح.
هذه الآية:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7)﴾
أيُعقل كلما رأى شاب فتاةً فقال: أعوذ بالله، معاذ الله، فغض بصره عنها، وإنسان يملأ عينيه من الحرام، لا يدع منطقة في جسم الفتاة إلا ملأ محاسنها بعينيه، ثم يتزوجان، ويعاملان معاملة واحدة؟ قال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
تترفع عن شيء محرم ولا تأخذ الثمن، طبعاً قد يكون في الآخرة، وليس في الدنيا، والدنيا ليست دار جزاء ﴿أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ أيُعقل أن تنصح مريضاً بعدم إجراء العملية لأنه لا يحتاجها، وطبيب آخر ينصحه بإجراء عملية، ولا يحتاجها، أن يعامَل الطبيبان سواءً بسواء؟ معقول أن تعتذر عن أخذ دعوى، وأنت محامٍ، لأن الدعوى فيها ظلم، ومحامٍ آخر لو أنه ظالم يأخذ الدعوى، ويدافع عن الظالم ليربح منه، ويعامَل المحاميان معاملة واحدة!
والله أذكر إنساناً دخل بيتي، فقال لي: كم تقدر عمري؟ قلت له: ستون؟ قال: ست وسبعون سنة، أنا تفاجأت، قال: والله بإمكاني أن أهدم هذا الجدار، أشعر كأنني حصان، مات منذ كم سنة، عاش إلى التسعين، والله أعلم، وليس متقيدًا بشيء من قواعد الصحة بالمناسبة، قال لي: ولكنني عملت في سلك صعب جداً، وفيه دخل مخيف لو أراد أن يأخذ مالاً حراماً، قال: والله ما أضررت إنساناً واحداً في حياتي، ولا أكل قرشاً حراماً، والله عز وجل في نهاية حياته كان له بيت في الشام، وبيت في المصيف، وأولاده متزوجون، وعنده مركبة، قال لي: أنا في بحبوحة كبيرة، ومرة أصيب بحادث، وكاد يفقد حياته، لأن دمه كله نزف منه، إلى أن وصل إلى المستشفى قال لي: وأنا مستلقٍ على طاولة العمليات ناجيت الله، وقلت له: يا رب إن آذيت لك عبداً واحداً من عبادك فأمتني الآن، وإلا فلي حق عندك أن تشفيني، قال لي: ما كنت سبباً في إيذاء واحد بكل حياتي، وغيري بنوا مجدهم على أنقاض الناس، وبنوا غناهم على إفقار الناس، وملؤوا قلوب الناس رعباً، قال لي: قُصِفوا وماتوا فقراء ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ هذه حقيقة مهمة جداً في الدين، لا يمكن أنت تُعامَل كما يُعامَل الفاسق، لا يمكن أن تُعامَل كما يُعامَل المنحرف، لا يمكن أن تُعامَل إذا كان دخلك حلالاً كما يُعامَل الذي دخله حرام، لا يمكن أن تُعامَل إن أردت من زواجك طاعة الله كمن أراد من زواجه المتعة فقط، مستحيل، لذلك قال تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ أجرك محفوظ، بل إنك إن تضع لقمةً في فم زوجتك تجدها يوم القيامة كجبل أحُدٍ.
أراد إنسان أن يتزوج، فخطب فتاة مناسبة جداً، الفتاة في طول رجليها فارق ثمانية سنتمترات، عاهة ولادية، فتلبس حذاء كعب ثمانية سنتمتر، والفردة الأخرى بلا كعب، وتلبس الطويل، فلا يظهر شيء، خُطِبت، وأعجبت من خطبها، فتم الزواج، وكُتِب العقد، يوم العرس انكشفت، وحماتها كشفتها، فحملت ابنها على تطليق امرأته، قال لها: لا أطلقها، ولا أكسر خاطرها، يقسمون بالله خلال سنوات معدودة صار معه مئتا مليون من عمل شريف، ويوجد قرابة، قال لأمه: لا أكسر خاطرها، لا يوجد مشكلة، واستوعب الموضوع، ورحمها.
مستحيل أن تعمل عملاً طيباً لا ترى ثماره في الدنيا، أو في الآخرة، لذلك هناك قول ترتعد له المفاصل: "ما أحسن عبدٌ من مسلمٍ أو كافرٍ إلا وقع أجره على الله في الدنيا أو في الآخرة"، ولو كان كافرًا، ملحدًا، خدم أحداً يهيئ الله له من يجازيه على خدمته في الدنيا.
ترى إنساناً بلا دين، ولكن يحب أن يخدم، ترى أموره ميسرة، دخله معقول، ما عنده مشكلة، الآخرة موضوع ثان، تخدم إنساناً في الدنيا فيضيع عليك هذا العمل، هذا مستحيل، مستحيل على عظمة الله، وعلى كماله، وعلى فضله، وعلى عدله ورحمته: ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ تترك بيتك المريح، وأنت مرتاح على الفراش، وزوجتك معك تشرب الشاي، والقهوة في الإفطار، أريد صحنًا من الفاكهة، وتترك هذا البيت المريح، وتلبس، وتأتي إلى المسجد، وتجلس على الأرض، لا يوجد كأس شاي، تسمع درس ساعة، وتعود ثلاث ساعات، هذه بلا مقابل! مستحيل، الله يضيفك في المسجد، يضيفك سكينة، حكمة، توفيقًا في حياتك، أولادًا أبرارًا، زوجة صالحة.
قال أحدهم: "أنا أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي" ، إذا ما كنت مع الله جيداً تتعبك الزوجة، تغلبك من دون سبب، الله يضيفك وفاقاً زوجياً، أولادًا أبرارًا، يضيفك صحة، طمأنينة، سعادة، سكينة. وعن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم زائره.))
ممكن ألاّ تضيف إنساناً دخل إلى بيتك شيئًا؟ ولو سُكّرة، ولو كأسًا من الشاي، مستحيل ألّا تضيفه، الله عز وجل أنت في بيته، نوع ضيافته نوع متفوق جداً، يكرمك بسكينة تملأ قلبك، يكرمك بالتوفيق، قال تعالى:
﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾
يكرمك بالتوفيق: ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ لا تخف، ولو أديت أقل عمل تتصوره فلن يضيع هذا الأجر، بل هو محفوظ عند الله، إن شاء عجل لك ثوابه في الدنيا، أو أخّره إلى يوم القيامة.
ذهب إنسان إلى بلد غربي، يبدو أنه رُبِّي تربية دينية، وجد الفسق غير معقول، أرسل إلى والده رسالة، وقال له: إما أن ترسل لي زوجةً على جناح السرعة، وإما أن أعود إلى البلد، أنا لا أعصي الله هنا، والوضع لا يحتمل، فالأب طلب منه وكالة، وخطب به، وعمل عقدًا، وأرسلها له.
أسمع قصة أنّ هناك وفاق بين الزوجين لا يُصدَّق، لماذا؟ لأن هذا الزواج بُنِي على طاعة الله عز وجل، الإنسان يشاهد خمسين امرأة لا تعجبه واحدة، هذا على ذوق أبيه تزوج، يرى خمسين ويحتار، بينما هذا لم يرَها، يمكن أن ينجح هذا الزواج إلى أقصى درجة، لأنه بُنِي على طاعة، القصص لا تعد ولا تحصى في تعزيز معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ يأتي أخ يعمل في المسجد خمس ساعات يوم الخميس لوجه الله، بلا مقابل هذه عند الله!
الله عز وجل قبل توبة بغِيّ رأت كلباً يأكل الثرى من العطش، فسقته، قال: فغفر الله لها، فشكر لها.
(( بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ.))
تطعم كلباً بلا مقابل، تطعم هرة، تعتني بحيوان مريض بلا أجر! هذه انزعها من ذهنك، أهل الدنيا مساكين يتوهمون أن المؤمن أجدب، يبذل ماله، يقال له: ما لك وهذا العناء؟، اجلس في بيتك أريح لك، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُم.))
يقول لك: أفضل شفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح، والعوام يقولون: "امشِ في جنازة ولا تمشِ في زواج"، هذه لا أريد أن أوجع رأسي، يعتذر منها، وهذه ليس لدي وقت فراغ، ترى نمطاً لا يعمل شيئاً.
شخصان أحدهما أقدسه تقديساً لا حدود له، لأنه لا يخطئ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجد إنسان لا يخطئ، ولكن أحتقره، وهو الذي لا يعمل، لا يغلط، لكنه لا يقدم خدمة، لا يعين على عمل صالح، لا يساهم بمشروع، ينتقد فقط، لا يغلط، لا يتورط في شيء أبداً، اسمه العفريت النفريت، لا يدخل في أي عمل صالح، مرتاح، فقط ينتقد، ينظّر للناس، ويشمت بهم، وينتقدهم، هذا الإنسان مع أنه لا يخطئ يُحتقَر، من لا يعمل لا يخطئ.
فلذلك نحن نرجو رحمة الله عز وجل، ﴿يَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ .
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق